بعد أسبوع من الدراسة جاءت عطلة نهاية الأسبوع وقررت الذهاب للتنزه والتجول في المدينة لكنني لم أجد أي رفقة فميلي لديها مجموعة من الأصدقاء لتقضي وقتها معهم وزملائي السعوديين ليسوا خياراً والفتاة من بينهم شخصيتها صعبة ومن المزعج التعامل معها لذلك أفضل الذهاب بمفردي على دعوتها.
ذهبت للكافتيريا وجلست أمام النافذة حيث اعتدت على الجلوس وجلس معي شريكي الذي ما زلت لا أعرف أسمه وأناديه partner في حين يعرف إسمي كاملاً ويكتبه لأجلي في أوراق التسليم لكنني لا أعرف اسمه، نظام الحضور هو التوقيع بجانب اسمك حين تدخل للقاعة لذلك لم استطع قراءة اسمه في كشف الاسماء، ومن الصعب سؤاله عن اسمه بعد مرور اسبوع، ولم أسمع أحداً يناديه من قبل، كان من الصعب طلب ذلك لكنني وضعت هاتفي على الطاولة ودفعته ناحيته وأنا اخبره بأن التواصل بالبريد الالكتروني صعب قليلاً لذلك علينا تبادل رقم الهاتف ليسهل علينا تحديد اوقات التسليم وابداء الملاحظات على العمل بصورة اسرع اثناء عطلة الاسبوع، لم يعارض ذلك واخذ الهاتف وسجل رقمه ثم دفع الهاتف ناحيتي تاركاً خانة الاسم فارغة، لم أقل شيئاً وخزنته Partner في الوقت الراهن حتى أعرف أسمه، هو يناديني بإسمي لذلك أشعر بالإحراج حين أناديه بغير اسمه.
تناولت سلطة الفواكه بصمت فسألني عن مخططاتي للعطلة الأسبوعيّة فأخبرته أنني كنت أريد الذهاب للمدينة لكنني لم أجد من يرافقني، تردد في قول ذلك لكنه سأل إذا كنت أريده أن يرافقني، وأتبع سؤاله بقول إنه لا يقصد الخروج في موعد أو ما شابه هو فقط يريد التجول كذلك ولم يجد من يرافقه، ضحكت ضحكة خفيفة وقلت ان الأمر أشبه بما يحدث في الأنمي.
سألني حينها إن كانت عادتي أن أتحاشى النظر لوجوه الناس؟ فكان جوابي أنني خجولة بما يكفي لأمتنع عن النظر لوجوه الرجال تحديداً، فسألني أيضاً عما إذا كنت أمتنع عن قول اسمه لنفس السبب، صمتت فطلب مني مناداته باسمه او اسم عائلته على الأقل، توترت جداً فأخبرني أن أناديه سينباي على الأقل أو كاي مثلاً كاختصار لاسم كايزاكي أو أنور فأسمه الأول أنور! رفعت حاجباي وأنا مصدومة حين قال ذلك فقال إن رد فعلي تجاه اسمه كرد فعل شخص لا يعرفه، اضطررت للكذب بهذا الشأن وقلت إنني سمعته شيء آخر، ظننت انه اسم ياباني واخطأت سماعه بأنور، ابتسم وقال إن والدته قد اختارت له هذا الاسم ولأنهم مسلمون اسمائه واشقائه بنفس النمط مع ان اسم عائلتهم لم يتغير.
أخبرته عن أفراد اسرتي كما فعل هو... كنا نتحدث الانجليزية طوال الوقت، حتى فاجأني حين تحدث باللهجة اللبنانية "أنا بحكي عربي منيح إزا بدك تحكي عربي " صدمت من سماع صوته وهو يتحدث العربية وقلت بالعربية "أني ما اتكلم چدي زيك، يمكن ما تفهم عليي " ضحك وقال أنني أتحدث بلهجة غريبة مثل الكويتيين، فقلت "ادا تقول انك تتابعني في الإنستغرام اكيد شفت سوالفي اللي أكتبها بالقطيفي " ضحك وقال " حبيتا للهجتك" قلت أن التحدث بالإنجليزية مريح اكثر، فلهجتي تشعرني بأنني قروية أو ما شابه مقارنةً بلهجته الخفيفة، فقال" بدي ياكي تعلميني للأطيفية إلت إلك عجبتني " رفعت حاجبي باستنكار وقلت وأنا أنظر لوجهه " خلاص ليه لا تضايقني " ابتسم وقال " لك هَي اتطلعتي بوشِّي " أنزلت ناظراي وقلت أنني سأعود للسكن لأرتاح، وقلت باليابانية "جا...ماتا نيه كاي-سينباي".
مرت عطلة نهاية الاسبوع وانا اتدرب على الرسم وضعت بعض الصور في حسابي الإنستغرام، شاهدت حلقات الأنمي التي اتابعها اسبوعياً ونمت لوقت طويل، وانتهى الامر هكذا.
صباح يوم الأحد مررت بماكينة القهوة لآخذ كوباً لكنها ابتلعت نقودي ولم تخرج شيئاً، ضربت جانبها وأنا أقول بصوت خافت "رجعي فلوسي أو أعطيني شي أشربه!" فجأة شعرت بظل شخص خلفي فاستدرت بسرعة لأجد ذاك الفتى الأجنبي "آليكس" يقترب مني ليحصرني بينه وبين الماكينة وضرب على الجانب بقوة فخرجت القهوة المثلجة وقال وهو ينظر لوجهي " تحتاجين لشيء آخر؟ " توترت وقلت بصوت مرتجف "ابتعد قليلاً من فضلك" وعندما ابتعد قال بنبرة منزعجة" أهكذا تشكرينني؟ " قلت وأنا ألتقط العلبة" شكراً لكن لا تقترب مني كثيراً ... أظن أنك حتى وإن لم تعرف في الدين ...تعرف المساحة الشخصية، أليس كذلك؟" اجابني بنبرة مزعجة "كنت أحاول أن أريكِ أنني مهتم بك " لم أرد الرد عليه وابتعدت عنه بسرعة مهرولة ناحية القاعة.
تحولت هرولتي لجري سريع فلم أستطع التوقف مباشرة واصطدمت بالشاب التركي يغييت الذي يصل طوله للمترين تقريباً وارتعدت حين عبس بوجهي، اعتذرت بتلعثم بالإنجليزية واعدتها بالتركية فضحك على نطقي ورد علي بأنه لا بأس لكن لا يجب ان أجري في الممرات كي لا يتأذى أحد، مشيت قليلاً وتوقفت عند الحائط ألتقط أنفاسي وأنا أوشك على البكاء، أشعر بالانزعاج لأنني مضطرة للقاء آليكس بعد ساعتين، يشعرني ذلك برغبة في البكاء، لا أريد أن يقترب مني رجل غريب بتلك الطريقة المخيفة.
اغرورقت عينياي لكنني حاولت إظهار قوتي ودخلت الصف... وقعت بجانب اسمي وجلست في أقرب كرسي فارغ دون أن أنظر لأي أحد... عبثت بأظافري وأنا أحاول منع نفسي من البكاء.. دخل الأستاذ واستغرق نصف ساعة للشرح ثم طلب منا العمل ثنائياً لإنهاء مهمة اليوم، بحثت عن كاي في مكانه المعتاد لكنني لم أجده فتقدمت للأمام وبحثت عن اسمه في لستة الأسماء لأتأكد من حضوره اليوم، فجأة سمعته يناديني فأخذت حاجياتي وذهبت لجانبه وجلست فسألني عما إذا كان بي خطب ما، فأنا لم ألاحظه مع أنه لوح لي كما أنني كنت شاردة طوال الوقت وجلست بمكان آخر بعيداً عنه، أخبرته بالأمر وانتهى بي الأمر أبكي بسبب ذلك... اعتذرت منه واستأذنت الأستاذ للذهاب لدورة المياه.
حين خرجت من دورة المياه وجدت كاي ينتظرني، سألته عن سبب مجيئه فقال بجدية " لا تشغلي بالك فيه، خليني أحكي معو منشان ما يتعرض لك مرة تانية" شعرت بالخجل والاحراج وقلت "ما يحتاج... شكراً...ما بدي غلبَك " قال بجدية" انا ما عم امزح هلأ.. بلاش رايك بالموضوع انا بدي احكي معو لأن هاد وئت دراسة مش ليزعج بنات الناس" أخبرته أن علينا العودة للصف كما أن تدخله سيزيد الأمر سوءاًً. بعد انتهاء الصف خرجنا سوية حتى وصلنا لقاعتي التالية لوحت له ودخلت، حينها تواجه مع آليكس أمام الباب فتحدث آليكس بنبرة مستفزة" أووه عرفت ذوقك الآن ... أنت تحبين اليابانيين " وشد عينيه بطريقة سخيفة ساخراً من عيني كاي، قال كاي بهدوء " أولاً نحن هنا للدراسة وثانياً ليس الكل بتفكير سطحي مثلك ويبحث عن الحب في مكان كهذا " لكمه آليكس وقال " من تظن نفسك لتقيم تفكيري؟! " تدخل بينهم الشباب لإيقافهم لكنهما وإن لم يستطيعا ضرب بعضهما استمرت الشتائم بينهما حتى دخل الأستاذ وأوقف الأمر وطلب لقاء كلاهما بعد الصف لحل المشكلة.
لم اتحدث مع آليكس فقد كان غاضباً وحتى لو لم يكن أنا غير مستعدة للتحدث معه بعدما حدث. حين انتهى الصف ذهبت لمكتب الأستاذ معهما، سألهما الأستاذ عن المشكلة فقال آليكس أن كاي قد أهانه بدون سبب فتدخلت أنا بقول إن آليكس قد سخر من كاي، قال كاي بلهجة مؤدبة أن ما حدث كان خطأه فقد كان عليه حل الموضوع دون اللجوء للعنف بالرغم من وقاحة آليكس... حينها اعتذر آليكس وقال إن ما حدث كان خطأه لأنه أهان كاي أولاً، ثم قال" لقد قلت ذلك لأن هذه الفتاة لا تلقي لي بالاً مع أنني كنت واضحاً ومباشراً حين أبديت إعجابي بها " رفع كاي حاجبه وطلب خروجي من الغرفة فقد حُل الأمر، وتابعوا حديثهم وأنا بالخارج.
قلقت على كاي لكنني لم أقل شيئاً حتى خرجا وابتسامة تعلو وجهيهما، سألت "ماذا حدث؟" فأجاب آليكس “لم نطلب منك الخروج لنخبرك بما حدث" ومشى تاركاً إياي مع كاي الذي سألني مباشرة ان كنت جائعة وذهبنا لنتناول الغداء. لم نتحدث كثيراً فقد كنت اشعر بالإحراج حين انتهينا اعتذرت عما حدث وطلبت منه ألا يتدخل بهذه الأمور حتى لا يتأذى، فقال "بتخافي عليِّ؟" رمقته بنظرة غاضبة وقلت" باي، برجع غرفتي "
حين عدت للغرفة اتصلت بصديقتي المقربة واخبرتها بكل ما حدث فأنهت حديثها بـ(شكله يحبش 😂😏) شغلت تفكيري تلك الجملة ونفيتها بكل ما أوتيت من قوة في عقلي الباطن فذلك سيجعل التعامل معه صعباً.
حين حل الشتاء وجاء وقت العطلة التي مدتها اسبوعين، حجزت رحلة لأعود لزيارة عائلتي وحين جاء موعد رحلة عودتي، أرسلت لجميع من أعرفهم هنا أنني سأعود للبيت خلال العطلة وسأعود لاحقاً، وطلبت منهم مراسلتي إذا ما طرأ أمر ما، اعتذرت من كاي لمغادرتي دون إخباره فذلك سيعطل عملنا الذي كنا نخطط لإنهائه خلال العطلة، لكنني عرضت عليه إنهاء عملي رقمياً حتى لا أعطل سير العمل.
اتصل بي وقال بانفعال "أخيراً فكرتي ترسلي لي شي ع رقمي وبالأخير يطلع هيك؟" اجبته" آسفة... ما احتجت أتصل عليك لذلك ما استخدمت الرقم " قال بنفس النبرة:" أنتي وين؟ بأي مطار بدك تسافري؟!" أخبرته أنني وصلت لكن طيارتي بعد ساعتين لكنني أفضل الذهاب مبكراً للاحتياط، أغلق الخط فظننت أن هذا كل ما في الامر، وضعت رأسي على مسند الكرسي وغفوت.
بعد برهة رن هاتفي فأجبت دون أن أرى اسم المتحدث، لكنني عرفت الصوت حين سمعته" أنا اجيت للمطار لشوفك، وينيك؟" تلفتت وأنا احاول ان أستوعب ما يحدث وقلت" أني قاعدة على الكراسي مقابل بوابة 204 " فقال وهو يركض" جايك لا تتحركي! " أغلق الخط فجلست مكاني أقلب مانجا مترجمة قد اشتريتها من محل في المطار، حينها سمعت جرياً ملفتاً فرفعت رأسي لأجده واقفاً يلتقط أنفاسه بصعوبة وبيده باقة ورد أحمر.
وقفت وقلت بنبرة متفاجئة "وش صاير؟! وش فيك؟" تنفس بعمق وارتشف بعض الماء ثم اقترب مني وقال" في الحقيقة... أنا معجب فيكِ! ... بحبك، وبدي أتزوجك" وجثى على ركبته رافعاً باقة الورد الحمراء ناحيتي، صفق جميع من حولنا والتقط البعض صوراً، أحرجني ذلك ولم أستطع رفضه فقلت "شكراً لك ... لكن... " نظر إلى عيني نظرة حزينة فأخذت الزهور من يده وقلت" تعرف عاداتنا ما أقدر أوافق بدون رأي أبويي " فقال " بدي اجي معك واطلبك منو! " قلت بخجل" لا تستعجل الأمور، يمكن يصير شي يغير رايك " وقف ونفض بنطاله مكان الركبتين وقال:" رايي ما حيتغير، إزا إجى الوقت المناسب بالنسبة إلك خبريني"
فتحت بوابة البوردينق لرحلتي وأعلن عن ذلك، قلت بابتسامة خجولة " شكراً أنور... أني بعد معجبة فيك" قال بابتسامة " هي أحلى كلمتين بيطلعوا من تمِك" رفعت حاجباي باستغراب فقال" أنور ومعجبة فيك" ضحكت وغطيت وجهي ثم أمسكت بالحقيبة وانحنيت انحناءة بسيطة وقلت " سايونارا" ومشيت بعيداً وأنا أشعر أن هذا اللقاء قد يكون اللقاء الأخير بيننا.
وبالفعل كان كذلك فبعد أن عدت للسعودية اجتاح العالم جائحة كورونا وتوقفت رحالات السفر ولجأنا للدراسة عن بعد، بالرغم من كل ذلك استمريت بتطبيق الدروس ومساعدة أنور عن بعد، وحين عادت الحياة لمجراها الطبيعي كانت دراستنا قد انتهت، بعد أن استلمنا درجاتنا النهائية وهنأت أنور بنجاحنا، ارسلت رسالة له كان مضمونها أن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن... وأنني بالرغم من اعجابي به، لم يكن مقدراً لنا أن نكون معاً بسبب كل ما حدث، وشكرته على كل ما قدمه لي وأخبرته أنني سأتوقف عن التواصل معه لكن إذا أراد مني شيء سأكون متواجدة للمساعدة.
بعدها بيومين أرسل لي رداً بدا لي أحزن شيء قد أقرأه في حياتي.. أخبرني أنه أحبني قبل أن يراني في الصف... فكما قال في أول لقاء لنا أنه كان يتابعني في الإنستغرام وكنت مصدر إلهامه ليدخل هذا المجال... وكانت معجزة بالنسبة له لقائي في الكلية التي لم يكن يطمح للدخول إليها لأنه ياباني الجنسية لذلك بإمكانه الدراسة في أماكن أفضل، لكنه شعر بأنه أتخذ قراراً سليماً حين تقابل معي واسترد شغفه بالرسم وازداد طموحه، وها هو الآن يعود لنقطة الصفر فتحول الأمر من كوني بعيدة المنال إلى مستحيلة المنال... وأختتم رسالته بقول أنه لا يعرف كيف يتخطى خسارتي لكنه سيحاول جعلي سبباً لشغفه وينسى مشاعره أو على الأقل يحاول تخطي حزنه... و ارفق صوراً له حين تقدم لي.
بعد شهور من أعمالي المنفردة التي لم تلق نجاحاً كما هو متوقع، تقدمت لوظيفة جزئية في شركة صغيرة لرسم القصص المصورة وقد كان من شروطهم أن تكون كل الرسومات ورقية، لم يعجبني ذلك لكن ذهبت للمكتبة لأشتري الأدوات اللازمة لذلك... وقفت بين الرفوف وقلبت الدفاتر وأنواع الأوراق وأنا أتمتم بانزعاج:" ليش لازم تكون ورقية؟! ما أعرف ارسم الأساسيات ... ما أقدر أسوي كل شي لحالي" فجأة مد أحدهم كراسة رسم لي وقال:" نوعية الورق هي ممتازة للمانجا" إذا لم أكن مخطئة فهذا الصوت، رفعت رأسي مباشرة لأتأكد من صاحبه وكان هو فعلاً:" أنور؟!" ابتسم ووضع الدفتر في سلتي وقال وهو يلتقط دفتراً آخر ويقلبه:" إي.. أنور، ما إجيتي لليابان قمت إجيت لعندك" احمرت وجنتاي خجلاً لدى سماعي ذلك وقلت:" ترى الناس يفهموا لك هني، مو زي اليابان" ضحكنا سوياً ونسيت حينها أنني تساءلت عن كيفية مجيئه لكنني لم أرد إفساد اللحظة بسؤالي ...
في النهاية السعيدة تحدث أنور مع والدي وتقدم لخطبتي رسمياً، وتزوجنا لنكون عائلة صغيرة مع جبل من الأعمال التي تنتظرنا لننجزها، رسمنا قصة تشابه قصتنا وانهيناها بخاتمة سعيدة ولاقت نجاحاً باهراً، حققت مبيعات لا بأس بها وتبنت العمل شركة للإنتاج وصنعوا أنمي من القصة.. كانت ميلي مؤدية صوتها في القصة وتواصلوا معي لتأدية صوت البطولة وأدى أنور صوته في الأنمي ونجح بشكل رائع وعُرض مدبلجاً للعربية بصوتي وصوته كذلك ولاقى نجاحاً باهراً!
Comments (0)
See all