في اليوم الأول لي، ركبت الحافلة وجلست في المقعد الشاغر وفتحت صفحة زهور وكتبت رسالة (اليوم بعد ٣ سنوات من متابعتي لكِ، استطعت أن أخطو خطوتي الأولى وأمضي قدماً لتحقيق حلمي، شكراً لأنكِ ساعدتني في اكتشاف ما أحبه) لكنني لم أرسلها في النهاية فأنا لم يسبق لي أن حادثتها محادثة خاصة. حين وصلت الحافلة دخلت الكلية بتوتر فسنوات البقاء في المنزل أنستني مجتمع الدراسة، مشيت عبر الأروقة وأنا أتأمل وجوه الجميع ... عرق أسود وأبيض وأشخاص بشعر باهت يكاد يكون أبيض، فتيات محجبات وشباب بلحية وشوارب خفيفين، فكرة وحيدة قد طرأت بذهني، أن كل من هنا قد اجتمعوا بحبهم للرسم، ابتسمت وأنا أتخطى باب الصف، وقلت باندفاع أوهايو مينا سان، لينظروا إلي نظرة متعجبة ويجيبني بعضهم ويتجاهلني البعض، تركت حقيبتي على المقعد واقتربت من الجمع في مقدمة الصف وقلت باليابانية "ماذا تفعلون؟" لينظروا إلي مجدداً بنظرات الاستغراب ويقول أحدهم بالإنجليزية " نحن نقرأ المانجا التي رسمتها هذه الفتاة"
رفعت الفتاة دفترها لتريني رسوماتها المبهرة، بعد قليل انفض الجمع وعدت لمكاني لأجد فتاة محجبة تجلس بجانب مكاني وحين رأتني بدت مرتبكة للغاية، لم أحادثها لكنني حاولت الجلوس على طرف الكرسي حتى لا أكون قريباً منها للغاية وأشعرها بعدم الارتياح، حين جاء الأستاذ وطلب منا التعريف بأنفسنا وقفت الفتاة التي بجانبي وقالت بالإنجليزية بصوت هادئ:
"اسمي زهور القطيف سعودية وعمري 22 عاماً، بعد أن أنهيت 3 سنوات من دراسة دبلوم تصميم الأزياء، أنا هنا لتحقيق حلمي بأن أصبح مانجاكا عظيمة!"
ابتسمت ابتسامة متوترة ورفعت رسوماتها لترينا إياها، وتأكدت حينها أنها زهور التي ألهمتني لأكون في هذا المكان... لم أستطع حينها إخفاء سعادتي برؤيتها شخصياً، حين جلست قلت لها مباشرة:
" أنا واحد من معجبيك! أنا أتابع حسابك منذ 3 سنوات وأنا هنا بفضلك! لقد ألهمتني لأصبح رساماً... ألقي نظرة على رسوماتي رجاءً"
كانت مصدومة حقاً وقالت بخدود متوردة:
" لا أعرف ماذا أقول، لكنني ممتنة لكلامك اللطيف وسعيدة بسماع ذلك"
لم أستطع كبح اندفاعي للتعرف عليها شخصياً فقد كنت دوماً معجباً بها حتى قبل أن أحصل على فرصة رؤيتها، إنها جميلة للغاية ولطيفة... أظن أن إعجابي هذا قد تحول لحب من النظرة الأولى حين سمعت صوتها ورأيت ملامحها الناعمة، كانت تلك لحظة لم أحلم بها أبداً، وما زاد سعادتي أن الأستاذ قد اختارني لأكون شريكها في العمل، لم أستطع كبح مشاعري الفائضة التي جعلتني أنسى هدف العمل كثنائي ونظرت لها باهتمام وهي تعمل حتى أزعجتها دون قصد، وطلبت مني أن أقوم بعملي بدلاً عن مراقبتها. في وقت الصفوف الأخرى كانت عيناي تبحثان عنها فقط لكن سوء حظي لم يجعلها معي في أي صف آخر في ذلك اليوم، خرجت للكافتيريا وبحثت عنها مباشرة وحين رأيتها كانت تجلس بمفردها أمام النافذة فأخذت طعامي وذهبت لجانبها وطلبت الإذن لمشاركتها الطاولة فوافقت، جلست مقابلاً لها وسألتها بالإنجليزية عن يومها فتحدثت معي بصراحة:
" زميلي في الصف السابق قد أصر على أخذ رقم هاتفي، وذلك أشعرني بعدم الراحة فقد ألح بطريقة مزعجة"
كنت على وشك طلب رقمها لكن قولها لذلك جعلني أغير رأيي، لكن بما أنها تحدثت بصراحة قررت فعل المثل وأخبرتها أنني كنت سأطلب رقمها، فقالت:
" نيتك من طلب رقمي مختلفة عنه أنت بحاجة إليه للتواصل بشأن عملنا الجماعي، لكنه أراده لشيء آخر وقد كان ذلك واضحاً من طريقته في السؤال..."
توردت وجنتاها مجدداً وصمتت فقلت:
" إذا كان طلب رقمك يشعرك بالانزعاج دعينا نتواصل عبر البريد الالكتروني"
أومأت برأسها وتابعت تناول الطعام بملل.
كنت متحمساً للقاء هيروكي صديقي في دوامي المسائي في المتجر حتى أخبره بأنني التقيت بزهور، حين أنتهى الدوام أصريت على إيصال زهور للمنزل فلم تكن أي من صديقاتها بالقرب، وحين فعلت ذهبت للمتجر مباشرة وبدلت ملابسي وأسرعت للقاء صديقي الذي كان جالساً على الأرض وينقل محتوى الصندوق إلى الرف، قلت بحماسة:" لن تصدق ما حدث اليوم!" رفع رأسه ونظر لوجهي من فوق النظارة وقال:" ماذا؟ " أجبته:" لقد التقيت زهور!" وقف بسرعة فأصطدم رأسه بلافتة الممر وقال بسرعة:" ماذا؟! كيف ؟!" أجبته وأنا أقترب بسرعة:" إنها زميلتي في الصف والأفضل من كل ذلك هي شريكتي في العمل!" أمسك بأكتافي وقال:" عرفني عليها رجاءً " ضربت جبينه بقبضي وقلت:" لا تعبث معي! " فقال وهو يلتقط بعض الكتب ويضعها على الرف:" كلانا معجبان بأعمالها، دعني أحصل على توقيعها فقط" قلت وأنا أساعده:" سأطلب منها رسم شيء لأجلك ... إذا استطعت" ابتسم ابتسامة عريضة ونظر لي نظرة جانبية وقال:" هل هي جميلة؟" ضربته على رأسه مجدداً وقلت:" بالطبع هي كذلك" واحمرت وجنتاي خجلاً فضحك علي.
في اليوم التالي جلست في مكان عشوائي ونظرت للباب بترقب منتظراً دخول زهور وكأنها السبب الوحيد الذي جعلني آتي للكلية، وحين دخلت أجالت ناظريها في المكان وكأنها تبحث عن أحد، لم أفكر قبل أن أرفع يدي وألوح لها بعفوية وابتسامتي العريضة لا يمكن إخفائها. ما فاجأني هو ابتسامتها الخجولة حين رأتني، لم أدرك أنني نسيت يدي مرفوعة إلا حين اقتربت مني وهي تحاول كتم ضحكتها وقالت:
"صباح الخير يا شريكي!"
أخفضت يدي وقلت بسرعة:
" صباح الخير زهور"
ابتسمت بخجل وقالت بتوتر وهي تشير لمقعدين شاغرين:
"هل تمانع إذا غيرت مقعدك؟ لأن علينا الجلوس جنباً إلى جنب مع شريكنا في العمل"
وقفت بسرعة وقلت: "بالطبع" مشيت ببطء لأتيح لها فرصة اختيار المقعد الذي يعجبها لكنها توقفت أمام المقعدين وقالت:"
"أفضل الجلوس هنا بجانب الممر"
وضعت أغراضي وجلست، فجلست هي الأخرى وأخرجت دفترها وقالت:
" لقد رسمت مسودة لبعض الشخصيات، وقد اخترت رسم شخصية الشاب "
ضحكت ضحكة خفيفة وهي تغطي فمها بخجل، وقلبت صفحات الدفتر بسرعة لتريني رسوماتها وتصميمها للشخصية، قلت بابتسامة " تصاميمك جميلة كالعادة" نظرت لي بنبرة متفاجئة وقالت: "شكراً على المجاملة "
لم أكن أجاملها لكنها لا تملك ثقة بنفسها، على كل حال اخرجت أنا الآخر دفتري وقلت:
" يبدو أن لدينا نوعا من التخاطر لأنني قمت بتصميم شخصية الفتاة "
حركتي السريعة لم تسعفني وتمكنت زهور من رؤية رسوماتي التخيلية لها بجانب رسمتي التي رسمتها بعد أن رأيتها، فوضعت يدها على الصفحة لتوقفني عن تقليب الصفحات... قالت بدهشة:
" إن تصاميمك مذهلة! لقد أحببتها حقاً، عيناها جميلة لقد أعجبتني الفتاة التي ترتدي الحجاب"
لا يبدو أنها عرفت نفسها فلو أنها فعلت لما أبدت رد الفعل هذا، وربما كانت لتظنني مهووساً أو غريب أطوار، لم أقل شيئاً فقالت لي:
" ماذا رأيك أن أغير تصميم شخصية الشاب ليتناسب مع تصميم شخصيتك، لقد خطرت لي فكرة غريبة... ما رأيك أن أرسمـ..."
لماذا توقفت عن الكلام فجأة؟ هل لأنني كنت أنظر لوجهها وهي تتحدث، ربما ذلك أشعرها بعدم الراحة؟ تلعثمت وهي تقول:
" لقد أردت أن أقول... أن أرسمك كشخصية رئيسية للقصة، اختيارك للملابس رائع... إذا لم تمانع بالطبع.."
شعرت بوجنتي تشتعلان وأنا أسمعها تقول ذلك عني، وقلت:
" أشعر بالإطراء لما قلته، لا أمانع ذلك... لكن إذا كنت أنا شخصية الشاب الرئيسية عليكِ أن تكوني شخصية الفتاة الرئيسية"
كانت ترتشف الماء وأنا أتحدث، وسعلت بقوة لدى سماعها ذلك وقالت بالعربية بصدمة:" وشوو؟!" أتبعتها بقولها:
" أنا آسفة، لكن دعنا لا نغير تصميم شخصية الفتاة التي رسمتها"
ضحكت ضحكة خفيفة فالتصميم الذي رسمته لم يكن هذا الذي رأته، وما رأته كان هي بأسلوبي.
Comments (0)
See all