في أحد الأيام وحين كنا نتناول الطعام سألتها عن خططها لعطلة نهاية الأسبوع فقالت:
أود أن أذهب في جولة حول المنطقة، ولكن زميلتي في الغرفة لديها خطط لهذا الأسبوع لذلك سأبقى في المنزل.
فقلت بتوتر وأنا شبه متأكد من جوابها:
"أنا متفرغ نهاية هذا الأسبوع ... يمكنني أن أتجول معك... لا أقصد الذهاب في موعد، ولكن يصادف أنني سأكون وحدي أيضا."
أشاحت ناظريها وقالت وهي تضع الملعقة:
"شكرا لعرضك، ولكن يجب أن أرفض... سيكون ذلك محرجا للغايه إنه مثل مشهد أنمي."
اتبعت ذلك بضحكة خافتة فقلت:
"لا بأس، لقد توقعت رفضك... هل لي أن أسأل، هي عادة أن تتفادي النظر لوجوه الناس؟"
فأجابتني:
"أنا أتحاشى النظر للرجال بشكل خاص، أنا فقط أشعر بالإحراج."
فسألتها وأنا أنظر ليديها التي تحركها بتوتر:
"هل هو نفس السبب الذي يمنعك من مناداتي باسمي؟ يمكنك مناداتي سينباي إذا أردتِ، أو كاي بدلاً عن كايزاكي أو حتى اسمي الأول... أنور."
رفعت رأسها بسرعة لتنظر لوجهي مباشرة على غير عادة وقالت بنبرة متفاجئة وكأنها لا تعرف اسمي:
" أنور؟ إذاً لم أسمع خطأ، اعتقدت أنه اسم ياباني. "
أجبتها:
"اختارت أمي أسماءنا ... أنور ونور وآية صغيرتنا. "
ابتسمت لتقول وهي تريح رأسها على كتفيها وهي تنظر لوجهي:
جميع اسمائكم عربية، أختي ياسمين وأخي جيهان ومعاني أسمائنا متعلقة بالزهور.
قلت بلهجتي اللبنانية: أنا بحكي عربي منيح إزا بدك تحكي عربي. صدمت للحظات وهي مازالت تنظر لوجهي وكأنها لا تستوعب أنني أنا مان يتحدث وقالت بالعربية: أني ما اتكلم چدي زيك، يمكن ما تفهم عليي. ضحكت وأنا أحاول فهم لهجتها وقلت: لهجتك متل أهل الكويت ما عم تحكي سعودي. فقالت: ادا تقول أنك تتابعني في الإنستغرام اكيد شفت سوالفي اللي أكتبها بالقطيفي. أحببت سماعها تتحدث بلهجتها وضحكت وقلت: حبيتا للهجتك. قالت بتوتر: خلينا نتكلم إنجليزي أحسن لأن لهجتي تحسسني إني قروية مقارنةً بلهجتك الخفيفة. فقلت: بدي ياكي تعلميني للأطيفية. رفعت حاجبها وقالت: خلاص ليه لا تضايقني. ابتسمت لها وقلت: لك هَي اتطلعتي بوشِّي. أنزلت ناظريها بخجل وقالت باليابانية وهي تترك مكانها وترفع طبق الطعام معها "إذاً...أراك لاحقاً كاي-سينباي". من اللطيف سماعها تناديني سينباي.. لكنني أردتها أن تقول أنور فقلما يناديني أصدقائي باسمي الأول.
في مساء اليوم ذاته ذهبت للقرطاسية متحمساً للقاء هيروكي لأخبره بما حدث هذا الصباح، دخلت بسرعة وبدلت ملابسي وذهبت لهيروكي وسحبت من يده بعض الكتب لأساعده وقلت بحماسة: "لقد نادتني باسمي أخيراً!" نظر لي نظرة سريعة وعاد يصف الكتب في الرف وقال:" أنور؟" فقلت وأنا أناوله بعض الكتب:" لا ليس لهذا الحد، لكنها قالت كاي-سينباي" أنهينا صف الكتب وجلسنا خلف طاولة المحاسبة ليقول هيروكي:" يبدو أنك وقعت في حبها يا كاي" أكاد أشعر بوجنتي تشتعلان وهو يقول ذلك، لكنني لم أجبه فقال:" لست بحاجة لقول شيء فالأمر واضح" ابتسمت بإحراج فقال:" أظن أنكما مناسبان لبعضكما، لماذا لا تتواعدان؟" قلت بتلعثم:" أنت لا تفهم، إن ذلك ليس لائقاً بالنسبة لها، أنا أعني إن العلاقات هذه ليست شائعة في بلادها، كما أنها قالتها صريحة... هي لا ترى علاقة الصداقة بين الفتيات والفتيان ممكنة " رمش بتعابير جامدة ثم قال:" آ... حسناً، فلتتمالك نفسك إذاً ولا تبالغ في الحب حتى لا ينكسر قلبك"
لم أنتظر يوماً انتهاء عطلة الأسبوع، لكنني الآن أنتظرها وأنتظر الدراسة بشوق كبير فذلك يعني فرصة رؤية زهور والقيام بأكثر عمل أحبه وهو الرسم والتأليف. جلست وتركت حقيبتي على مقعدها لأبقيه شاغراً حتى وصولها، كنت أنتظر لوصولها بحماس لأرى ما رسمته خلال العطلة، لكنها وعلى غير العادة دخلت بتعابير متوترة أشعرتني أن خطب ما قد أصابها... وما أكد لي ذلك هو جلوسها السريع على أقرب مقعد من الباب، كانت تعبث بأظافرها طوال الوقت وكأنها بعالم آخر... حاولت التركيز وتدوين الملاحظات فأحدنا عليه فعل ذلك لننجز العمل المطلوب منا اليوم، بعد نصف ساعة طلب الأستاذ أن نبدأ العمل ثنائياً كالمعتاد، وقفت زهور في مكانها وبحثت بناظريها ثم عادت لقائمة الأسماء وكأنها تتأكد من وجودي اليوم، عرفت حينها أن أمراً سيئاً قد واجهها وجعلها مشتتة هكذا، وقفت في مكاني وناديتها فأخذت حاجياتها ومشت نحوي بسرعة وجلست فسألتها مباشرة:" شو صرلك؟ مانك على بعضك اليوم، حاولت أشرلك بس ما شفتيني" نظرت لي بعيون مغرورقه بالدموع وقالت وهي تحاول أن تتماسك: " قد مررت بموقف ضغط على أعصابي وأنهكني... لقد أردت قهوة مثلجة ولم تعمل آلة البيع وتوقفت علبة القهوة بالداخل... وأليكس قد..."
لم تستطع إنهاء ما أرادت قوله وبكت في منتصف حديثها... ثم تابعت بالعربية: "تقرب مني واجد، لزق فيي ما ترك مسافة بيننا... أدري يمكن ما تعتبره شي لأن هني متعودين بس أني خفت، ما عمري صرت بهالقرب من رجال غريب وجهه كان قريب..." شعرت بالغضب وأنا أسمعها تقول ذلك وهي تبكي، واستشطت غضباً لأنها تبكي من شدة خوفها منه، أعطيتها منديلاً ورقياً وقلت بهدوء:" إي دخيل الله لا تبكي" قالت وهي تمسح دموعها:" أرجو المعذرة، سأغسل وجهي وأعود بسرعة"
لم أستطع ترك الأمر دون أن أتدخل فلحقت بها وانتظرتها أمام دورة مياه الفتيات، وحين خرجت سألتني:" وش فيك تنتظر هني؟ " قلت بانفعال:" لا تشغلي بالك فيه، خليني أحكي معو منشان ما يتعرض لك مرة تانية" توردت وجنتاها وقالت بخجل: "ما يحتاج، شكراً...ما بدي غلبَك " قلت بجدية:" انا ما عم امزح هلأ.. بلاش رايك بالموضوع انا بدي احكي معو لأن هاد وئت دراسة مش ليزعج بنات الناس" قالت بهدوء:" خلينا نرجع نخلص شغلنا" لم أجادلها وتوقفت عن ذكر الأمر حتى أنهينا العمل المطلوب في الصف. خرجت معها لأرافقها لصفها التالي وحين وصلنا طلبت مني المغادرة ولوحت بيدها بابتسامة متوترة حين مررت بالباب كان شاب آخر يدخل في نفس اللحظة التي أغادر بها، واستطعت سماعه يقول بنبرة مستفزة: " أووه~ عرفت ذوقكِ الآن... أنت تفضلين اليابانيين"
فنظرت له نظرة جانبية لأراه يشد عينيه بطريقة سخيفة ساخراً من عيني، فقلت بهدوء:
" نحن هنا للدراسة... وليس الجميع سطحي التفكير مثلك ويبحث عن علاقات الحب في كل مكان... "
قبل أن يجيبني بالكلمات أجابتني لكمته ثم قال:
" من تظن نفسك لتهينني؟ أنا لست سطحياً!"
لكمته بقوة رداً على ضربته فتدخل بيننا الشباب لإيقافنا لكنه استمر بشتمي وإن لم يستطع ضربي فرددت عليه بالمثل، حتى دخل الأستاذ وأوقف الأمر وطلب لقائنا بعد الصف لحل المشكلة. ذهبت لصفي بشفاه مجروحة وخد متورم وجلست غاضباً حتى أنتهى الصف وذهبت لمكتب الأستاذ وأنا أخبر نفسي بأنني لست نادماً على ما حدث، فعلى الأقل فعلي لذلك سيبعده عن زهور، حين دخلت للمكتب كانت زهور مع المدعو أليكس يقفان أمام مكتب الأستاذ بانتظار وصولي، وحين دخلت سأل الأستاذ عن المشكلة فقال أليكس أنني قد أهنته بدون سبب فتدخلت زهور بقولها بصوت مرتجف:
"أليكس قد أهان كايزاكي أولاً"
فقلت بلهجة مؤدبة:
" إنه خطأي أيضاً... ما كان علي استخدام قبضتي في موقف سخيف كهذا، آسف يا أليكس"
حينها شعر آليكس بالإحراج وقال:
" لم أكن أقصد افتعال مشكلة، كنت مهتما بالفتاة وشعرت بالغيرة لأنها كانت مهتمة بك... أنا آسف أيضا"
رفعت حاجباي باستنكار وطلبت من زهور الانتظار في الخارج، فقالت بصوتها المرتجف وخديها المتوردين:
" حسنا، لكن أريد توضيح شيء ما، أنا لست مهتمة بكاي... إنه شريكي في العمل فقط"
شعرت بالإحباط وبدى ذلك واضحاً على تعابيري، لكن لحسن الحظ زهور لم تر ذلك، بعد أن خرجت قال الأستاذ:" يبدو أنكما حللتما المشكلة بالفعل لذلك لا حاجة لإلقاء المحاضرات عليكما.
قال آليكس بنبرة ساخرة:" إذاً، أنت لست صديقها حتى"
ابتسمت بمرارة وقلت:" على الأقل لدي مكان في حياتها"
ضحك وقال وهو يحيط رقبتي بذراعه:
" دعنا نصبح أصدقاء يا رجل، تعجبني شخصيتك... ولندع الفتاة وشأنها، أنا لست سطحياً لكنني بحاجة لبعض الرفقة".
ضحكت أنا الآخر وقلت: " حسناً، لنصبح أصدقاء إذاً"
خرجنا بابتسامة على وجهينا واستقبلتنا زهور بتعابير متوترة وسألت عما حدث، فأجاب آليكس وهو يضحك: " لم نطلب منك المغادرة لنخبرك بما حدث"
ومشى مبتعداً بعد أن ربت على كتفي، قررت تغيير الموضوع وسألت زهور:" بدك نتغدى سوى؟" أومأت برأسها وذهبنا للكافتيريا، لم نتحدث كثيراً فقد بدت لي زهور غير مرتاحة، وحين انتهينا قالت:" آسفة على اللي صار، مرة ثانية لا تدخل في مشاكل وضرب عشان لا تتأذى" فقلت ممازحاً:” بتخافي عليِّ؟" رمقتني بنظرة غاضبة بتلك العيون اللامعة وقالت:" باي، برجع غرفتي " لم أفهم حقاً سبب غضبها، لكنني مازلت حزيناً بسبب ما قالته... أنا لست سوى شريكها في العمل، ذلك محبط. وقفت في مكاني والتقطت حقيبتي وأخذت هاتفي من على الطاولة فرأيت لصقة جروح بجانب هاتفي.. هل تركتها زهور لأغطي جرح شفتي؟ أخذتها وابتسامة كبيرة لا تفارقني.
Comments (0)
See all