الفصل الأول ~ أهلا بالزوار
إذا كنت طالبا ، فإنك دوما ما ستسمع هذه الكلمات ممن هم أكبر منك "سنوات الجامعة كانت من أحلى سنوات حياتي" أو "إن الجامعة هي باب الفرص الذهبية" ، أو ربما سوف تسمع حتى عبارة "أيام التعب والسهر ستذهب بمجرد التحاقك بالجامعة" .
حسنا ، ربما ليس بالنسبة للجامعة التي تدرس فيها بطلتنا ..
"هل أنتِ جادة ؟!" استهجنت شابة ذات شعر أسود بطول الأكتاف بسبب كلام صديقتها الصادم ، لترد عليها الأخرى بوجه تعتليه ملامح شخص استسلم للقدر "كل الجِد يا لينا ، قالت دكتورة العلوم الدقيقة أنها ستلغي علامة حصة الأعمال التطبيقية و تتصرف فيها كما يحلو لها" .
لم تستطع المدعوة لينا استيعاب الأمر ، أرادت التحدث لكن عقلها تحول لفضاء فارغ من شدة الصدمة ، فها هي الآن تفتح و تغلق فمها مثل السمكة الغبية في محاولة لإيجاد الكلمات المناسبة للوضع .. كان كل ما خرج من بين شفتيها بعد فترة من الصمت "لكن لماذا ؟" نطقتها بنبرة مرتجفة و كأنها على وشك البكاء .
ما كان من رفيقتها إلا أن ترفع نظارتها التي انزلقت في حسرة ، و تضع كفها على كتف لينا لتقول "قالت أنه ليس من غير المنطقي أن يحصل قسمنا على علامات عالية بينما الأقسام الأخرى حصلت على أصفار ، و أنه يجب تحقيق العدل بأن نرسب كلنا" .
استشاظت لينا غضبا لتبدأ بالمشي في دوائر و هي تصرخ " ماذا ؟ (تحقيق العدل) قالت ؟! أين العدل في أن تتجاهل تعبنا طوال أربعة أشهر و تتلاعب بعلاماتنا المستحقة و كأنها ملكة العالم ؟ لم تكتفِ برفع شكوى لطرد معلم حصة الأعمال التطبيقية ، و الآن هذا ؟!" سكتت لبضع لحظات قبل أن تنطق بصوت ضعيف "يارا ، لقد بذلنا جهدنا حقا حتى نحصل على هذه العلامة ، لما كل هذا الظلم ؟"
عقدت يارا حاجبيها و هي تلوح بيدها في إحباط لتردف "تعرفين في أي نوع من الجامعات ندرس ، معك كل الحق في أن تغضبي ، لكن تعرفين أنه لا يمكننا فعل أي شيء أمام أولئك الدكاترة المتغطرسين"
اتكأت لينا على الحائط و أخذت شهيقا واسعا لتهدئ أعصابها ، ثم ابتسمت بتعب "هل ترغبين بالذهاب لتناول شيء ما من آلة البيع ؟" لتجيبها الأخرى "أي شيء إلا القهوة .. على فكرة ، لقد توسعت الهالات السوداء لديك" .
ضحكت لينا ضحكة خالية من الفكاهة "سهرت الليل لأكمل مشروع النباتات الطبية ذاك، ليس لدي حاسوب لذا كان علي أن أتشاجر مع هاتفي حتى أكمله"
بدأت يارا تبحث في حقيبتها فجأة و هي تتمتم "أظن أن قليلا من أساس البشرة يمكنه إخفاؤها ـــ" لتقاطعها لينا مستهجنة "شكرا لكن دعكِ منه ، تعرفين أنني و المكياج أعداء"
فجأة رن هاتف لينا ، ابتعدت قليلا عن الجدار الذي استندت عليه حتى تلتقط هاتفها ، أضاء وجهها من الفرح عندما رأت من المتصل ، لترد بسرعة على المكالمة "هل أكملتِ تقريركِ بعد ؟"
"هل يمكنك عدم ذكره لدقائق ؟ نفسيتي تدمرت بسببه" ردت روري بصوت يوحي بأنها تعبس على الجانب الآخر من المكالمة ، لتضحك لينا ضحكة خفيفة قبل أن تحاول كتمها لتشهق صديقتها متهمة "هل يعقل .. أنك تفعلين هذا عمدا فقط لإغاظتي ؟!" علت ضحكات لينا لأنها لم تتحمل إخفاءها أكثر ، ثم أردفت قائلة "حسنا أعترف ، من الممتع إغاظتك .. على أي حال ، لما اتصلتِ بي ؟" ليأتيها الجواب على شكل هتاف مرح "لنلتقِ على الغذاء .. رغم أننا ندرس في نفس الجامعة إلا أننا لم نلتقِ لمدة أسبوعين"
وافقت لينا على خطة روري ، لتتبادل كل منهما كلمات الوداع قبل إقفال الخط . استدارت لينا ليارا لتكمل ما كانت تتحدث معها قبل تلقي الاتصال .
و هكذا سارت الفتاتان معا و هما تتمازحان للخروج من كلية البيولوجيا .
هكذا مرت الحياة الجامعية لأغلب الطلاب في تلك البقعة من الأرض ، التي يدعوها طلابها بـ(جامعة باب الدمار النفسي) كتهكم على اسمها المتعارف (جامعة باب الزوار) ، مستقر الدكاترة بالمصابين بأعتى حالات (عقدة التفوق) شدة على وجه المجرة ، بالطبع يوجد أساتذة رائعين لكن من ندرتهم فإنك إن التقيت بأحدهم و تولى تعليمك فاعرف أن مخزون تسع سنوات من الحظ قد تم استنزافه في تلك اللحظة .
لكن ماذا على بطلتنا أن تفعل ؟ دخلت الجامعة لأن شهادتها معترف بها دوليا ، لذا عليها أن تضحي بشيء -صحتها العقلية- مقابل أن تتوج نهاية رحلتها بتلك الشهادة ، و ما بيدها أي حيلة .
"هل ستدخلين أم لا ؟" قالت يارا بملل لترد عليها لينا "أقسمت على نفسي أن لا أُقْبِل على محاضرات تلك الشمطاء بعد ما فعلته بعلاماتنا ، فلتقصني من مادتها ، لا أهتم !" . تنهدت يارا و أردفت "أنتِ حرة في قراراتك ، أنا سأدخل ، أراكِ لاحقا" لوحت لينا مودعة يارا التي دلفت إلى المدرج ، وقفت متململة قليلا ثم هزت رأسها رفضا و هي تتمتم لنفسها "لن أحيد عن قراري ، أرفض حتى أن أستنشق نفس الهواء الذي تتنفسه تلك المجنونة" عقدت لينا عزمها و ابتعدت بخطوات ثابتة و قبضات مشدودة .
الساعة الآن الحادية عشر ، و محاضرة روري ستنتهي بعد نصف ساعة ، لذا ها هي لينا الآن تمشي ببطء بين المبنيين الطويلين المخصصين للقاعات ، و هي تستمتع بنسيم الهواء العليل بينما تستمع للموسيقى بسماعاتها السلكية ، متلذذة بطعم الانتصار الصغير الذي يرافق التغيب عن المحاضرة بقرار اتخذته بكل إرادتها ، كانت لينا منذ صغرها تعظم كل شيء ، فإذ بها تارة تحزن حزنا عميقا إذا نالت علامة سيئة و تبكي فرحا إذا مدح أحدهم طريقة لبسها ، هذا ما جعلها تقدر لحظة الطمأنينة هذه من أعمق دهاليز فؤادها ، فابتسمت ابتسامة صغيرة لتفكر 'كم أتمنى أن تدوم ثواني السلام هذه للأبد' .
تم قطع استرخاء بطلتنا عندما اخترق صراخ عالٍ أذنيها رغم أن السماعات لم تتوقف عن تشغيل الألحان ، التبس لينا شعور مختلط من الفضول و الرهبة العميقة و هي تستدير بسرعة البرق لمصدر الصرخة لدرجة أن رقبتها كادت أن تنكسر ...
شهقة حادة ، رغم أنه يبدو أن تلك الشهقة لا يمكن أن توفر أي نوع من الأكسجين لرئتي الفتاة المصدومة التي تشعر حاليا أن صدرها خالٍ تماما من أي هواء يدخله ، توسعت جفونها لتكشف عن مقلتيها المرتعشتين المصبوغتين بلون الرعب و الذعر ، المشهد الذي رأته تجمدت في مكانها لثلاث ثوانٍ قبل أن تعطي الأمر لساقيها بالهرب و اتباع حشد من الطلبة الذين يركضون من دون اتجاه ، عليها الهرب مهما كلّف الثمن ، عليها النجاة !!
لم تمتلك حتى وقتا كافيا لنزع سماعاتها من أذنيها ، لقد أضاعت ثوانٍ ثمينة بالتجمد خوفا هناك ، و بصراحة هي ممتنة لأنها لم تخلعها بعد لأنها لم تكن ترغب في أن تنصت لأصوات الصراخ المروعة التي يصدرها الطلبة الهاربون ، و رغم أن معظمها تتجاوز الأغنية الرومنسية التي تلعب الآن -لينا تندب حظها على اختيار التشغيل العشوائي السيء للأغاني- إلا أنها تركز عليها لتصفي عقلها من جلبة النحيب و هذا ما جعل أعصابها تهدئ إلى درجة يمكن فيها التفكير بشكل منطقي .
'ربما ذلك المكان أبعد للوصول إليه ، لكن بقية الناس سيتجهون لأقرب الأماكن -التي هي القاعات- لذا ستكون مزدحمة و هذا شيء علي أن أتجنبه لكن مهلا ، هل كان ذلك حقا ــــ '
قطعت لينا تفكيرها بقوة قبل أن تفكر في الأمر حتى ، دماغها لم يعالج الوضع كاملا لكنها تدرك أنها لو أمعنت النظر فيما رأته سابقا فإنها ستدخل في نوبة هلع ، كما تعرف أن عليها الهرب دون السماح لأي شيء بتعطيل ذلك ، لذا توجهت بسرعة للمكان الذي كانت تفكر فيه ، ألا و هو "المبنى 'B " ، و بالفعل وصلت إلى هناك مع نفس منقطع مع مجموعة أخرى من الطلاب و دخلوا بسرعة ليسدوا المدخل بالطاولات و الكراسي .
أخيرا وجدت لينا متنفسا لتنتزع سماعاتها بقوة ، و يأخذها عقلها بلا رحمة إلى ذاكرة جديدة حدثت قبل دقائق ..
-شاب ملقى على الأرض يتخبط بلا جدوى في محاولة لإبعاد الكائن القابع فوقه ، الذي يغرس أنيابه بين ثنايا رقبته بقوة ليقتلع شرايينه من جذورها ، رفع ذلك الكائن رأسه ببطء و هو يلف مفاصله في حركات مستحيلة عمليا مصدرا صوت خرخرة ذات بحة غير طبيعية حيث يعجز حلق بشري أن يصدرها ، بشري ؟ ربما ، لكنه لحمه متحلل و بشرته متقشرة بطريقة لا بد أنها مؤلمة ، و عيناه مبيضتان و كأنه أعمى لا يبصر ، لكن لينا اكتشفت فورا خطأها فور أن تلتقي نظرته بنظرتها و يبدأ بعدها بالركض من ناحيتها -
عندها استوعبت و يا ليتها لم تفعل ، و استقر الإدراك كحجر ثقيل في أعماق عُباَبٍ متلاطم الأمواج .. غلفت دموع الرعب عينيها لكنها رفضت تركها تسقط ، بدأت تشعر بجسدها الرهيف و هو يرتجف بلا حسيب أو رقيب ، علقت كتلة ضخمة من الجزع في حلقها بينما تحاول إجبار الكلمات التالية على الخروج من فمها "أكان ذلك .. زومبي ؟!"
في هذا المَرْبَع بالذات ، كانت لينا قبل ساعات تظن أنها ستعيش يوما آخر من جحيم باب الدمار ، دون أن تدرك حتى ، فإن الجحيم الحقيقي على وشك أن يبدأ للتو .
Comments (3)
See all